فصل: (مسألة: تخليل الخمر)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: القول في المذي والمني]

والمذي نجسٌ؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يغسل ذكره منه).
والودي نجسٌ؛ لأنه في معناه.
وأما مني الآدمي: فالمشهور من مذهب الشافعي أنه طاهر ما لم تصبه نجاسةٌ. وبه قال من الصحابة: ابن عباس، وسعد بن أبي وقاصٍ وعائشة.
وقال مالك، والأوزاعي: (هو نجس يجب غسله رطبًا ويابسًا). وخرج صاحب " التلخيص " قولاً للشافعي مثل هذا.
وقال أبو حنيفةَ: (هو نجس يجب غسله إن كان رطبًا، وإن كان يابسًا.. أجزأه الفرك).
وحكى بعض أصحابنا الخراسانيين في مني المرأة قولين. ومنهم من يقول: فيه وجهان، بناء على الوجهين في نجاسة رطوبة فرجها.
دليلنا: ما روى ابن عباسٍ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن المني يصيب الثوب؟
فقال: أمطه عنك بإذخرةٍ؛ فإنما هو كبصاقٍ أو مخاطٍ».
وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيصلي فيه» ولو كان نجسًا.. لما انعقدت معه الصلاة. ولأنه خارجٌ من حيوانٍ طاهرٍ، يخلق منه، مثل أصله، فكان طاهرًا، كالبيض.
فقولنا: (من حيوانٍ طاهرٍ) احترازٌ من مني الكلب والخنزير.
وقولنا: (يخلق منه، مثل أصله) احتراز من البول والمذي والودي.
وأما مني سائر الحيوانات غير الكلب، والخنزير، وما تولد منهما أو من أحدهما.. ففيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه طاهرٌ، كعرقه ولعابه.
والثاني: أنه نجسٌ؛ لأنه من فضول الطعام المستحيل، وإنما حكم بطهارته من الآدمي؛ لكرامته.
والثالث: أن كل ما أكل لحمه.. فمنيه طاهرٌ، كلبنه. وما لا يؤكل لحمه.. فمنيه نجسٌ، كلبنه.
فكل موضع قلنا: إن المني طاهرٌ.. فهل يحل أكله؟ فيه وجهان:
الأول: قال الشيخ أبو حامد: لا يحل أكله.
والثاني: قال الشيخ أبو زيد المروزي: يحل أكله.
وفي نجاسة بيض ما لا يؤكل لحمه وجهان، كمنيه:
فإذا قلنا: إنه طاهرٌ.. فهل يجب غسل ظاهره؟ فيه وجهان، بناء على نجاسة رطوبة الفرج.
قال المسعودي [في"الإبانة" ق \ 68] وإذا قلنا ماتت الدجاجة وفي جوفها بيضٌ.. فهل يحكم بنجاستها؟ فيه وجهان.

.[مسألة: في حكم الدماء]

وجميع الدماء نجسةٌ. وفي دم السمك وجهان:
أحدهما: أنه نجسٌ، كغيره.
والثاني: أنه طاهرٌ، كميتته.
وقال أبو حنيفة: (دم ما لا نفس له سائلةٌ طاهرٌ). وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]. وحديث عمارٍ. ولم يفرق.

.[فرع: في القيح والصديد والعلقة]

وأما القيح والصديد: فهو نجسٌ؛ لأنه أسوأ حالاً من الدَم.
وأما ماء القروح: فإن كان له رائحةٌ.. فهو كالقيح نجسٌ وإن لم يكن له رائحةٌ.. ففيه طريقان:
الأول: من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: أنه نجس، كالقيح.
والثاني: أنه طاهرٌ، كالعرق.
والطريق الثاني منهم من قال: هو طاهرٌ قولاً واحدًا، كالعرق.
واختلف أصحابنا في العلقة والمضغة التي هي مبتدأ خلق الآدمي، وفي البيضة إذا صارت دمًا.
فقال الصيرفي: الكل طاهرٌ؛ لأنه مبتدأ خلق حيوان طاهرٍ، فكان طاهرًا، كالمني.
وقال أبو إسحاق: هو نجسٌ؛ لأنه دمٌ خارجٌ من الرحم، فهو كالحيض.

.[مسألة: ميتة الحيوان الطاهر]

الحيوان الطاهر إذا مات.. ينظر فيه: فإن كان من غير السمك، والجراد، والآدمي.. فهو نجسٌ، سواءٌ كانت له نفسٌ سائلةٌ، أو لا نفس له سائلةٌ. هذا نقل أصحابنا البغداديين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]. ولم يفرق. وحكى الخراسانيون في طهارة ميتة ما لا نفس له سائلةٌ، وجهين.
وأما السمك والجراد: فميتتهما طاهرةٌ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحلت لنا ميتتان ودمان؛ أما الميتتان: فالسمك والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال».
فإن قطع من السمكة قطعةٌ، وبقيت السمكة حيةً.. فهل يحكم بطهارة تلك القطعة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: أنها نجسةٌ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي.. فهو ميتٌ».
والثاني: أنها طاهرةٌ؛ لأن ميتة السمك طاهرةٌ.
قلت: وينبغي أن يكون فيما أخذ من الجرادة، وبقيت الجرادة حيةً وجهان، كالسمكة.
وكذلك ينبغي أن يكون في ذرق الجراد وجهان، كدم السمك وذرقه.

.[فرع: ميتة الآدمي]

وأما الآدمي إذا مات.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه نجسٌ؛ لأنه حيوان لا يؤكل بعد موته، فكانت ميتته نجسةً، كسائر الميتات.
والثاني: أنه طاهرٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].
ومن كرامته أن لا يكون نجسًا بعد موته.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن ليس بنجس حيا ولا ميتًا».
وإن انفصل شيء من جسد ابن آدم في حياته.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الصيرفي: فيه قولان، كميتته.
وقال عامة أصحابنا: هو نجسٌ قولاً واحدًا. وهو الأصح؛ لأن الحرمة إنما تثبت لجملته لا لأبعاضه.
قال ابن الصباغ: والمشيمة - التي يكون فيها الولد - نجسةٌ إذا انفصلت؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي.. فهو ميتٌ».

.[فرع: في حكم الخمر]

الخمر نجسةٌ.
وقال ربيعة، وداود: (هي طاهرةٌ).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]. فسماه: رجسًا، و (الرجس) ـ عند العرب ـ: النجس. وقَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وهذا عمومٌ.
وأما النبيذ: فالمذهب: أنه نجسٌ؛ لأنه مسكرٌ، فكان نجسًا، كالخمر.
ومن أصحابنا من قال: إنه طاهرٌ؛ لاختلاف الناس فيه. وليس بشيءٍ.

.[فرع: نجاسة الكلب والخنزير]

الكلب نجس الذات، نجس السؤر. وبه قال ابن عباسٍ، وأبو هريرة، وعروة بن الزبير، وبه قال أبو حنيفة.
وذهب الزهري، ومالك، وداود إلى: (أنه طاهرٌ، وسؤره طاهرٌ، إلا أنه يجب الغسل من ولوغه تعبدًا، لا للنجاسة). واختاره ابن المنذر.
دليلنا: ما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فأريقوه، واغسلوه سبعًا، أولاهن بالتراب».
فأمر بإراقة ما فيه وقد يكون عسلاً أو سمنًا، فلولا أنه نجس الذات والسؤر.. لما أمر بإراقة سؤره، مع (نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال).
والخنزير نجس الذات نجس السؤر؛ لأنه أسوأ حالاً من الكلب؛ بدليل: أنه يندب إلى قتله وإن كان لا ضرر به، فإذا كان الكلب نجسًا.. فهذا أولى.
وينجس ما تولد من الكلب والخنزير؛ لأنه مخلوق من أصل نجس، فكان نجسًا.

.[فرع: ألبان غير المأكول]

واختلف أصحابنا في ألبان الحيوانات التي لا يؤكل لحمها غير الآدمي:
فقال أبو سعيد الإصطخري: هو طاهرٌ؛ لأنه حيوانٌ طاهرٌ، فكان لبنه طاهرًا، كالشاة والبقرة.
وقال عامة أصحابنا: هو نجسٌ ـ وهو المنصوص ـ كلحمه.

.[فرع: رطوبة فرج المرأة]

واختلف أصحابنا في رطوبة فرج المرأة:
فمنهم من قال: إنها طاهرةٌ، كعرقها.
ومنهم من قال: إنها نجسة. وهو المنصوص؛ لأنها متولدة في محل النجاسة.
وكل عين طاهرةٍ إذا أصابها شيءٌ من هذه النجاسات، وأحدهما رطبٌ.. نجست العين الطاهرة بذلك.

.[مسألة: تخليل الخمر]

لا يجوز تخليل الخمر، وإذا خللت بخل، أو ملح، أو ما أشبهه.. لم تطهر.
وقال أبو حنيفة: (يستحب تخليلها، وتطهر إذا خللت فتخللت).
وقال مالك: (يكره تخليلها، إلا أنها إذا خللت فتخللت.. طهرت).
دليلنا: ما روي: «أن أبا طلحة سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أيتام ورثوا خمرًا؟
فقال: أهرقها قال: أفلا أخللها؟ قال: لا» فنهاه عن التخليل.
فإن تخللت الخمر بنفسها.. طهرت؛ لأنا إنما حكمنا بنجاستها للشدة المطربة فيها، وقد زالت من غير نجاسة خلفتها، فحكم بطهارتها.
وهل يطهر الدن الذي هي فيه؟ فيه وجهان:
الأول: قال الداركي: إن كان مما لا يقبل جزءًا منها، كالزجاج، ونحوه.. طهر. وإن كان مما يقبل جزءًا منها.. لم يطهر.
والثاني: قال عامة أصحابنا: يطهر بكل حال، على سبيل التبع للخمر. وهو الأصح.
وإن نقل الخمر من الشمس إلى الظل، أو من الظل إلى الشمس، فتخللت.. فيه وجهان:
أحدهما: لا تطهر؛ لأنها إنما تخللت بفعله، وهو فعل محظورٌ، فلم تطهر.
والثاني: أنها تطهر؛ لأنها قد زالت الشدة المطربة فيها، من غير نجاسةٍ خلفتها.
ولا يجوز إمساك الخمر لكي تتخلل؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الخمرة وحاملها». فإن أمسكها حتى تخللت بنفسها من طول الإمساك.. فهل يحكم بطهارتها؟ فيه وجهان، حكاهما الشاشي.

.[فرع: السرجين والعظام المحروقة]

وإن أحرق العذرة أو السرجين أو عظام الميتة فصار رمادًا، أو طرح كلبًا ميتًا في مملحةٍ فصار ملحًا، أو طرح السرجين في التراب فصار ترابًا.. لم يطهر شي من ذلك.
وقال أبو حنيفة: (يطهر جميع ذلك).
وحكى صاحب "الإبانة" [في ق \ 70] أن هذا وجه لبعض أصحابنا. والمذهب الأول. دليلنا: أن نجاسة هذه الأشياء لعينها، والرماد هو عينها، فلم يحكم بطهارته، كالدَبس المتنجس إذا صار خلاً.
وفي دخان النجاسة وجهان:
أحدهما: أنه طاهرٌ؛ لأنه ليس هو النجاسة، ولا تولد منها، وإنما هو شيءٌ يحدثه الله عند التقاء جسم النار والعين النجسة، فلا معنى لتنجيسه.
فعلى هذا: إذا علق بالثوب.. لم يمنع من الصلاة فيه. وإذا حصل على حائط تنورٍ.. لم يمنع الخبز عليه.
والثاني: أنه نجسٌ. قال في "الفروع": وهو الأصح؛ لأنه حادث من العين النجسة، فأشبه الرماد.
قال أصحابنا: فعلى هذا: إذا علق بالثوب، فإن كان قليلاً.. عفي عنه. وإن كان كثيرًا.. لم يطهر إلا بالغسل. وإن سود التنور، فإن مسحه بخرقة وزال.. جاز الخبز عليه؛ لأن التنور والدخان يابسان. وإن ألصق عليه الخبز قبل الإزالة.. نجس ظاهر الرغيف، ووجب غسله. هكذا ذكره الشيخ أبو حامد.
وقال الشاشي: إذا قلنا: إن دخان النجاسة نجسٌ.. فهل يعفى عنه؟ فيه وجهان.

.[مسألة: ولوغ الكلب]

إذا ولغ الكلب في إناء فيه مائعٌ، أو ماءٌ دون القلتين، أو أدخل فيه منه عضوًا، أو وقع فيه شيءٌ من دمه، أو بوله، أو ذرقه.. وجب غسله سبع مرات، إحداهنَ بالتراب. وبه قال ابن عباس، وأبو هريرة، وأحمد، وإسحاق، والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة: (يجب غسله إلا أن السبع لا تجب، بل يغسل حتى يغلب على الظن طهارته، فلو غلب على الظن طهارته بمرة أو مرتين.. حكم بطهارته).
وقال مالك، وداود: (يغسل من الولوغ ـ كما قلنا ـ فأما إذا أدخل عضوًا منه فيه، أو بال فيه، أو وقع فيه شيءٌ من دمه أو روثه.. فلا يجب غسله سبعًا من ذلك).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعًا أولاهنَ بالتراب» فعلق طهارته بالسبع، فمن قال: إنه يطهر بدون ذلك.. فقد خالف مقتضى الخبر.
والاستدلال على داود ومالك: أنه نص على الولوغ، ونبه به على ما سواه.
إذا ثبت هذا: فإنه لا يجب أن يكون التراب في غسلةٍ ثامنةٍ، بل في أي السبع جعل التراب.. جاز.
والأفضل أن يجعل التراب فيما قبل السابعة؛ ليرد عليه ما ينظفه.
وقال الحسن، وأحمد: (يجب أن يكون التراب في غسلةٍ ثامنةٍ).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إحداهن بالتراب». وهذا نصٌ في موضع الخلاف.
وفي قدر التراب وجهان، حكاهما الشاشي عن " الحاوي ":
أحدهما: ما يقع عليه الاسم.
والثاني: ما يستوعب محل الولوغ.
قال الشاشيُ: فإن أصاب بول الكلب أو دمه ثوبًا، فلم تزل عين البول والدم إلا بمرتين.. فهل يحتسب بهما من السبع، أو يحتاج إلى استئناف السبع بعد زوال العين؟
فيه وجهان.
ولا فرق بين أن يصب الماء على التراب، أو يصب التراب على الماء.. فإنه يجزئ؛ لأن المقصود يحصل بذلك.
وإن خلط التراب بخل، أو بماء ورد، وغسل به.. فهل يصحُ؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق \ 6]:
أحدهما: لا يجزئ؛ لأن المقصود هو التراب.
والثاني: لا يجزئ. قال: وهو الأصح؛ لأن الخل وماء الورد ليس بطهورٍ.
وإن كان التراب نجسًا.. فهل يجزئ؟
فيه وجهان، حكاهما في " الإبانة" [ق \ 6].
وإن أصاب بول الكلب أرضًا، وجرى الماء عليه سبع مراتٍ.. فهل يحتاج إلى تراب آخر؟
فيه وجهان، حكاهما في"الإبانة" [ق \ 5]. الأصح: لا يحتاج؛ لأن نفس الأرض ترابٌ.
وإن غسل الإناء ثماني مرات بالماء من غير تراب.. فهل يحكم بطهارته؟
فيه وجهان، بناء على الوجهين في أن التراب شرع تعبدًا لا بد منه، أو للتنظيف؟
قال أبو العباس ابن سريج: شرع لتنظيف النجاسة.
فعلى هذا: تقوم الثامنة مقام التراب في التنظيف؛ لأن كل موضع يجوز التطهر بالتراب.. فالماء أجوز.
وقال غيره من أصحابنا: شرع التراب تعبدًا لا بد منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصد تقوية الماء بالتراب؛ لتغلظ النجاسة، والتراب مع الماء ينقي ما لا ينقي تكرار الماء.
هكذا ذكر أصحابنا.
وذكر في "المهذب": إذا غسل بالماء وحده.. فهل يجزئ؟
فيه وجهان، وأطلق، ولعله أراد: إذا أقام الثامنة مقام التراب، كما ذكر غيره.

.[فرع: وقوع ما نجسه الكلب في قليل الماء]

وإن وقع الإناء ـ الذي ولغ فيه الكلب ـ في ماء قليل.. نجس الماء، ولم يطهر الإناء.
وإن وقع الإناء في ماء كثير.. لم ينجس الماء، وهل يطهر الإناء؟
فيه خمسة أوجه:
أحدها: يحكم بطهارته؛ لأنه قد بلغ إلى حالة لو ولغ فيه الكلب.. لم ينجس، فحكم بطهارته. وهذا قول من يقيم الثامنة مقام التراب.
والثاني: يحتسب بذلك مرةً واحدةً، ولا بد من أن يغسل سبع مراتٍ، إحداهن بالتراب؛ لأن الإناء ما لم ينفصل عن الماء.. فهو في حكم الغسلة الواحدة.
والثالث: يحتسب بذلك ست مراتٍ؛ لأن ذلك أبلغ من ورود الماء عليه ست مرات، ولا بد من غسلةٍ سابعةٍ بالتراب. وهذا قول من لا يقيم الثامنة مقام التراب.
والرابع ـ ذكره في "العدة" ـ: إن أصاب الكلب الإناء نفسه.. احتسب بذلك غسلةً. وإن أصاب الكلب الماء الذي في الإناء، ونجس الإناء تبعًا للماء.. احتسب به ـ ها هنا ـ سبعًا؛ لأنه لما نجس الإناء تبعًا لغيره.. حكم بطهارته تبعًا لغيره.
والخامس ـ ذكره في "الفروع" ـ: إن كان الإناء ضيق الرأس.. لم يطهر؛ لأن الماء لا يجول فيه إلا مرةً. وإن كان واسعًا.. طهر؛ لأنه يجول فيه مرارًا.

.[فرع: فقد التراب]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إن كان في بحر لا يجد ترابًا، فغسله بما يقوم مقام التراب في التنظيف، من الأشنان، والنخالة، وما أشبه ذلك.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يجزئه؛ للخبر. ولأنه تطهير نص فيه على التراب، فاختص به، كالتيمم. وفيه احتراز من الاستنجاء، والدباغ.
والثاني: يجزئه؛ لأنه تطهير نص فيه على جامد، فلم يختص به، كالاستنجاء والدباغ). وفيه احتراز من إزالة النجاسة بالماء.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان في حال عدم التراب، فأما مع وجود التراب: فلا يجوز بغيره قولاً واحدا. وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على القولين، إذا كان في البحر حيث يعدم التراب، فعلم أن مع وجوده لا يقوم مقامه غيره قولاً واحدًا.
ومنهم من قال: القولان في الحالين؛ لأنه على القول الذي يقول: لا يجوز بغير التراب.. شبهه بالتراب ًفي التيمم، وجعل التيمم بالتراب أصلاً له، وعندنا: لا يجوز التيمم بغير التراب، مع وجود التراب، ولا مع عدمه.. فيجب أن يكون الغسل بغير التراب لا يجوز ـ على هذا القول ـ مع وجود التراب، ولا مع عدمه، كالأصل الذي قاس عليه.
وعلى القول الذي قال: يجوز الغسل بغير التراب.. شبهه بالاستنجاء والدباغ، وجعل الأحجار في الاستنجاء، والدباغ في القرظ أصلا له. والاستنجاء يجوز بغير الأحجار، مع وجود الأحجار ومع عدمها. والدباغ يجوز بغير القرظ مع وجود القرظ ومع عدمه.. فيجب أن يجوز غسل الإناء بغير التراب ـ على هذا القول ـ مع وجود التراب، ومع عدمه، كالأصل الذي قاس عليه.
وأما كلام الشافعي ـ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في البحر ـ: فلم يذكر البحر على سبيل الشرط، وإنما ذكر الموضع الذي تدعو الحاجة إلى العدول إلى غير التراب؛ لأنه مع وجود التراب.. لا غرض له في العدول عنه.
إذا ثبت هذا: فذكر في "الإبانة" [ق \ 5 و6]:
إذا قلنا: يقوم غير التراب مقامة في الإناء.. ففي الثوب أولى.
وإن قلنا: لا يقوم غير التراب مقامه في الإناء.. ففي الثوب وجهان.
والفرق بينهما: أن التراب يفسد الثوب ويقطعه ـ وقد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال ـ بخلاف الإناء.

.[فرع: في ولوغ الكلاب]

قال في " حرملة ": (إذا ولغ في الإناء كلابٌ.. أجزأه أن يغسله سبع مراتٍ إحداهن بالتراب).
ومن أصحابنا من قال: يجب أن يغسل لكل كلبٍ سبع مراتٍ، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا بال رجلٌ.. صب عليه ذنوبٌ وإن بال رجلان.. صب عليه ذنوبان).
والأول أصح؛ لأن البول يحتاج إلى زيادة ماء ليزيله. ولم يرد الشافعي بما ذكره التقدير، وإنما ذكره على حكم الغالب. وليس كذلك ولوغ الكلب الثاني؛ فإنه لا يزيد النجاسة، ولا يؤثر فيها، فجرى الكلب الواحد إذا كرر الولوغ. وإن ولغ الكلب في إناء، ووقعت فيه نجاسةٌ.. أجزأه للجميع غسله سبع مراتٍ إحداهن بالتراب؛ لأن النجاسة تتداخل. ولهذا لو أصابه بولٌ ودمٌ، وغسله مرةً زال الجميع.. أجزأه.

.[فرع: غسالة الولوغ]

إذا ولغ الكلب في إناء فغسل، وانفصل الماء عن الإناء، وهو غير متغيرٍ.. فهل يحكم بطهارة الماء؟ فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أن جميع الغسلات طاهرةٌ.
والثاني: أن جميعها نجسةٌ.
والثالث: أن السابعة طاهرةٌ، وما قبلها نجسةٌ. وهو الصحيح، وقد مضت دلالة الوجوه.
فإذا قلنا بهذا: فجمعت السابعة إلى الست، ولم يبلغ قلتين.. ففيه وجهان:
أحدهما: أنه طاهرٌ؛ لأنه ماءٌ انفصل عن الإناء وهو طاهرٌ، فأشبه السابعة.
والثاني: أن الكل نجسٌ. وهو الصحيح؛ لأن السابعة هي الطاهرة، والست نجساتٌ، وهن الغالبات على السابعة، فكان الكل نجسًا.
فأما إذا قلنا: إن الكل نجسٌ.. فلا يفيد الجمع، إذا لم يبلغ الجميع حد الكثرة.
وإن أصاب الثوب شيء من ماء إحدى الغسلات، فإن قلنا: إن الجميع طاهرٌ.. فلا تفريع عليه.
وإن أصابه مما حكم بنجاسته منها.. نجس الثوب. وكم القدر الذي يجب غسل الثوب منه؟ ينظر فيه:
فإن أصابه من السادسة، أو من السابعة إذا قلنا: إنها نجسةٌ.. حكم بطهارته بغسل مرة واحدةٍ، وجهًا واحدًا.
وإن أصابه مما قبلهما.. ففيه وجهان:
أحدهما: يكفيه غسل مرةٍ واحدةٍ؛ لأن كل غسلةٍ تزيل سبع النجاسة، فيغسل منها مرةً.
والثاني: إن أصابه من الغسلة الأولى.. لم يطهر ما أصابه منها إلا بغسل ست مراتٍ. وإن أصابه من الثانية.. غسل منها خمس مراتٍ. وإن أصابه من الثالثة.. غسل منها أربع مراتٍ، اعتبارًا بالبلل الباقي في الإناء.
فعلى هذا: ينظر: فإن أصاب الثوب من الغسلة التي غسل الإناء فيها بالتراب، أو مما بعدها.. لم يجب أن يغسل الثوب بالتراب. وإن أصابه من غسلة في الإناء قبل التراب.. لم يطهر الثوب إلا بالغسل بالتراب، اعتبارًا بالبلل الباقي في الإناء.